الأدب
الإسلامي
الاحتيال
أنواع
[1/2]
بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد
العزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
كتبت من قبل عن الاحتيال ، وقلت من منا لا يحتال ؟ وجئت بأمثلة تدل على أن جزءاً كبيرًا من عمل اليوم عندنا احتيال: احتيال على طلب الرزق واصطياده ، واحتيال على التغلب على الصعوبات ، واحتيال على دفع الأذى ، واحتيال على جلب المنفعة . وجئت بأمثلة من التراث ، فيها صور من الاحتيال بأنواعه المختلفة ، منها المؤلم المبكي ، ومنها المفرح المطرب ، ومنها الغريب المدهش ، ومنها المعتاد ؛ ولكنه حظي بالتدوين .
وأمثلة
الاحتيال بأنواعه ، وقصصه المدونة لا تنتهي ، فأنت لا تكاد تقرأ كتابًا من كتب
الأولين من آبائنا وأجدادنا إلا وتطل عليك حيلة من الحيل الملفتة للنظر، ولا
يستطيع المرء مقاومة الوقوف عندها ، وتمليّ جوانبها وطبيعتها ، والغوص على ما في
نفسِ مَنْ احتال ، أو احتيل عليه ، ثم لا يفتأ المرء أن يجد فائدة نقلها وتسجيلها
، ثم لا يجد أن له الحق أن يتفرد بالمتعة فيها ؛ ولكنه يشعر بشعور مُلِحّ في إشراك
غيره فيما أعجبه .
وقد
تجمع لديّ منذ أن كتبت المقالة السابقة عدد من هذه الحيل ، التي تمثل جوانب متعددة
من الحياة ، وتكشف عن أمور نفسية تدخلت في تكوين الصورة التي تمت بها الحيلة .
وكل
واحدة من هذه القصص تمثل جانبًا مستقلاً قد لا يشاركها في طبيعته إلا القليل من
الحيل، وسبب ذلك أن الحيل يمليها الظرف والحال، وإن كان بعضها يخطط له ؛ ولكنه حتى
عند التخطيط يخضع لقواعد الحيلة وطبيعتها .
والحيلة
غالبًا ما تأتي عن ذكاء ، وعن عقل يستطيع أن يسير في خطواتها بما يوصل إلى النتيجة
المطلوبة ، وقد يكون من سيقت عليه الحيلة ذكيًا، فيكشف الحيلة منذ بدء صاحبها في
بيعها عليه ؛ ولكن طرافتها أحيانًا تشفع في التغاضي ، والإيهام بأن من احتيل عليه
لم يكتشف أنها حيلة ، فيتغابى وليس غبيًا ، ويتسامح كرمًا وجودًا .
ولم
يكتف الأدباء القدامى في تسجيل حيل الناس بل أحيانًا جاؤوا بحيل الحيوانات ، ومنها
ما هو مقبول ؛ لأنه يتماشى مع الغريزة التي وضعها الله في الحيوان ، ضمانًا
لتكاثره وبقائه ، وبعضها متخيلاً، ويكون قابلاً للتصديق أو التكذيب ، أو يتأرجح
بينهما مائلاً إلى إحدى الصفتين .
ومن
الحيل الطريفة حيلة لجأ إليها صحابيّ جليل، أراد بها أن يصل إلى ما لم يصل إليه
بالقول المباشر، والوعظ المواجه ، وكانت الحيلة منه إلى زوجته ، وكان يبدي وجهة
نظره في ذهابها إلى المسجد ، وكان يريدها أن تكتفي بالصلاة في البيت، وهذا هو
الأوفى لها وهي امرأة ؛ ولكنها لم تقتنع بما قاله ، واستمرت في ذهابها إلى المسجد
، فأجرى حيلته مجراها ، فآتت أكلها ، وأوقفت زوجته الذهاب إلى المسجد ، مقتنعة بأن
ذلك هو الأفضل ، والقصة كالآتي مأخوذة من حديث طويل عن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن
نفيل ، التي كانت زوجة لعبدالله بن أبي بكر، فلما مات تزوجها الخليفة عمر بن
الخطاب – رضي الله عنه – فلما مات تزوجها الزبير بن العوام :
«ثم
تزوجها الزبير بعد عمر، وقد خلا سنها، (كبرت) فكانت تخرج بالليل إلى المسجد ، ولها
عجيزة ضخمة ؛
فقال
لها الزبير : لا تخرجي .
فقالت
: لا أزال أخرج أو تمنعني .
وكان
يكره أن يمنعها لقول النبي ﷺ
«لا
تمنعوا إماء الله مساجد الله»
.
فقعد
لها الزبير متنكرًا في ظلمة الليل ، فلما مرت به قرص عجيزتها ، فكانت لاتخرج بعد
ذلك.
فقال
لها : ما لك لاتخرجين ؟
فقالت
: كنت أخرج والناس ناس ، وقد فسد الناس ، فَبَيتي أوسع لي»
(1).
لقد
أجاد الزبير – رحمه الله – الحيلة ، وأقام أركانها على ما ظهر له من عفة زوجته ،
وعلى تغير مجتمع المدينة ، وهو ما كان سببًا وراء إجفاله من ذهابها إلى المسجد ،
وعلى مدخل الأذى الذي يتصوره . وكان الزبير بارعًا في إنفاذ هذه التمثيلية،
إخراجًا وتمثيلاً ، واختار وقت العتمة مسرحًا للعبته هذه ؛ فخرج منها مملوء اليدين
بالنتيجة التي أرادها، والهدف الذي سعى إليه .
وما
دمنا في مجال الحيل على النساء ، فهناك حيلة سيقت أيضًا إلى امرأة في وقت متأخر عن
زمن الزبير وعاتكة ، وتمت مع عاتكة أخرى ، وزوجة للخليفة عبد الملك بن مروان ؛
وإذا كان للقصة الأولى هدف رأينا القصد فيه ، وأسلوب رأينا السير فيه ، فالهدف في
القصة الآتية مختلف ، والمسرح مختلف ، وعدد الأشخاص عليه زاد عن اثنين :
«تغيظت
عاتكة بنت يزيد بن معاوية على عبد الملك ، وكانت امرأته ، وكان من أشد الناس حبًا
لها ، فحجبته ، وأغلقت بابها عليه ؛ فشق ذلك عليه ، وشكاه إلى خاصته ، وأعيته
الحيل فيها ، وفي رضاها عنه .
فقال
له عمرو بن هلال ، وكان خصيصًا بيزيد ومعاوية : ما لي عندك إن رَضِيَت ؟
قال
: حكمك .
فأتى
بابها ، فخرجت إليه مولياتها ونساؤها، فقال :
قد
عَرَفت الحُرَّة مكاني من أمير المؤمنين ، وقد وقع لي ما لابد من أن أفزع إليها
فيه : قتل أحد ابني الآخر، وأراد الخليفة قتل الآخر به ، وأنا الولي، وقد عفوت ،
وهو لا يسمع قولي ؛ وقد رجوت أن يحيي الله ابني على يديها .
فقالت
: فما أصنع مع غضبي عليه ؟
فلم
يزلن بها حتى خرجت إليه ، وأخذت برجله فقبلتها .
فقال
: هو لك . ولم يبرحا حتىاصطلحا .
وقال
لعمرو : حكمك ؟
قال
: مزرعة بعبيدها وما فيها ، وألف دينار، وفرائض لولدي ، وأهل بيتي .
فقال
: ذلك لك»
(2).
لقد
نجح عمرو في حيلته ، ووصل إلى مقصوده ، بنصب فخ أحسن وضعه ، اعتمد له العاطفة
أساسًا ، ونشد له الشفقة والرحمة سياجًا ، وكانت الفكرة مأخوذة من غور بعيد القاع
، لايتصور أن تصل عاتكة إلى كشف مُخَبَّئِه ، أو كشف مستوره ، ولقد كان بالإِمكان
أن يرجح تأبيّ عاتكة في أن تهدم جدار الجفوة الذي أقامته بينها وبين الخليفة ،
لولا أن عمرًا تابع ترقيق قلبها، وشحذ حنانها وعطفها، بتأثيره على من حولها من
رصيفات ووصيفات ، وقد نجح لأنه تابع الأمر، وأجاد التمثيل ، فأوصد أي باب للشك
فيما أتى به، أو الريبة في الهدف .
وتتعقد
الحيلة ، وتأخذ مجرى طريفًا ، يلجأ إليه رجل لم يبق له من الحيلة إلا ذهنه ،
فيحتال به ليصل إلى إشباع هوايته ، وعدم قطع عادة أراد من حوله أن يقطعوها ؛
والقصة عن ابن جدعان ، الكريم المشهور، وهي كالآتي :
«لما
كبر عبد الله بن جدعان أخذ بنو تيم على يده ، ومنعوه أن يعطي ماله ، فإذا أتاه
السائل قال: ادن مني ، فيلطم وجهه ، ثم يقول : إذهب فاطلب لطمتك ، أو ترضى منها .
فيطالبه
الرجل بلطمته ، فترضيه بنو تيم من ماله .
وذلك
عنى ابن قيس الرقيات بقوله في قصيدة يذكر فيها سادات قريش :
والذي إن أشار نحوك لطما
تبـــــع اللطم نائـــل وعطاء(3)
وهواية
ابن جدعان في الكرم يبدو أنها كبرت معه ، مما جعل من حوله يخشى أن تأتي على ماله، فاتخذوا
ما اتخذوا رحمة به ، وإبقاء على ماله ؛ ولكنه لم يَرَ لهم ذلك ، وأوصله تفكيره
المنطلق من حبه للكرم ، أن يقدم على هذه الحيلة المبتدعة ؛ ومما يدل على قوتها ،
وتوفيقه في اللجوء إليها أنها آتت ثمرتها ، وأوصلته إلى غايته ، وأفردته بذكر لم
يصل إليه غيره من قبل ولا من بعد ، والفكرة تأتي من ذهن صاف ، مرتكنة على عاطفة
قوية ، وعادة متمكنة ، عاشها المرء سنين وسنين ، مآلها النجاح، وزكاء الثمرة .
والجوع
وألمه ، والرغبة في الشبع ، مما يغري أحيانًا بالاحتيال ، وهو أمر مقدر، يعذر فيه
صاحبه؛ لأن الجوع كما يقال كافر، فهو لا يرحم، ولهذا فلا بد من مقابلته بالحرب ،
والحرب خدعة، والخدعة قد تأتي بصورة حيلة .
هناك
قصة تُروى في إحدى مدن القصيم في نجد ،وهي أن رجلاً اتفق مع آخر على أن يقوم هو
ومن يرى مساعدته بإنجاز عمل حدّده ، مما قد يأخذ يومين أو ثلاثة ؛ وكانت العادة أن
صاحب العمل يقوم بتقديم وجبة رئيسة لهم ، ماداموا يعملون عنده من شروق الشمس إلى
غروبها . وكان العاملون اثنين ، فأرسلت الزوجة التي عليها إعداد الطعام طفلها
تسألهم عن عددهم ، فقال أحدهم : أنا ومحمد ، وأخي وعلي ، فمجموعنا أربعة ، ولم
يَصْدق ولم يَكْذِب ، فاسمه هو محمد واسم أخيه عليّ ، وهكذا حَظِي بعشاء أربعة !!
وهناك
قصة في التراث لاتبعد في هدفها عن هذه ، وتقترب منها في مجراها كثيرًا ، وكان فكر
المنفذ يجري في مجرى واحد مع صاحب القصة الأولى :
«تُوُفي
رجلٌ من بني عجل ، فبُني على قبره بناء، وكان يضاف عند قبره الأضياف ، فإذا جاء
الليل جاء رجل من أهل العجلي ، فنظر كم ثـَمَّ من ضيف ، فجاءهم من النزل على قدر
ذلك .
فمر
رجل من بني ذهل ، فجاء الرجل المُوَكَّل بالأضياف ، وقد جاء الليل ، فلما رآه
الذهلي نزع قلنسوته ، فوضعها على ركبته وقال :
قم
يا عمروا !
فذهب
الرجل فيجاء بنزل رجلين ، فقال فيهم الشاعر :
إذا أنفذ الذهليّ ما في جرابه
تلَفّت هل يلقى برابية قبــــرا
فإن قيل قبـــــر من لجيم ببلـدة
أناخ وسمَّى رأس ركبته عمرا(4)
وتستمر
الحيل تتوالَى بتوالي أنواعها ، وتتلون بلون ظروفها ، وتصور عقول من يحبكها
ويحيكها، فتأتي متقنة مجدية .
وتأتي
الحيلة أحيانًا من باب الاضطرار ، ويجبر الإِنسان عليها ليحمي عقيدته ، أو ليبقي
رأسه على كتفيه ، ولا مناص له إلا أن يُعمِل عقله بحيلة يخرج منها من المأزق بسلام
، وهذا هو وقت الاستفادة من العقل ، أكثر من أي وقت آخر؛ لأن العقيدة غالية ،
والحياة مثلها لا يرخصها من يستطيع صيانتها ، والإبقاء عليها . وفي القصة الآتية
حيلة تمثل هذا القول ، وهي على بساطتها بارعة متقنة ، نفذت بعبقرية متناهية :
يقول
صاحب أخبار الظراف :
«بلغنا
أن رجلين سعيا بمؤمن إلى فرعون ليقتله، فأحضرهم فرعون ، فقال للساعين :
من
ربكما ؟
قالا
: أنت .
فقال
: من ربك ؟
فقال
: ربي ربهما .
فقال
لهما فرعون : سعيتما برجل على ديني لأقتله ، فقتلهما(5).
وسواء
أصحت هذه القصة ، أو لم تصح عند من يرى أن اللغة العربية قد تسمح بهذا ؛ ولكن
اللغة الفرعونية قد لا تسمح ، ومدخل الطعن أن زمن فرعون بعيد على مثل هذه القصة أن
تخترق الزمن ؛ والرطلان يستبعد أن يستسلما بهذه السهولة ، دون أن يوضحا ويناكفا .
على
أي حال هي قصة لحيلة طريفة تستحق أن يوقف عندها ، وأن تُعطى من الوقت ما استحقته .
ويلاحظ
أن الأمر كله يرتكز على ترتيب الجمل في الجدل ؛ ولكن النتيجة التي جاءت من ذلك
كبيرة ، فيها إدانة ، وفيها براءة .
ويستعمل
شخص عقله في أن يستفيد من عمل مبرور ، اعتمادًا على قول مأثور ، ويقدمه أمام غرضه
حيلة ينجح فيها بسهولة ، لأن هدفه نبيل، وقصده شريف، فيه خير له ، وخير لمن أجريت
عليه الحيلة ، والقصة تجري في كتب التراث هكذا.
«قال
عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي من أعلام الحديث ، وهو شيخ البخاري :
«كنا
عند سفيان بن عيينة ، فحدّث بحديث زمزم : أنه لما شُرِب له ، فقام رجل من المجلس ،
ثم عاد ، فقال له : يا أبا محمد ، أليس الذي حدثتنا في زمزم صحيحًا ؟
فقال
: نعم .
قال
: فإني قد شربت الآن دلوًا من زمزم على أنك تحدثني بمئة حديث .
فقال
سفيان : اقعد ؛ فحدثه بمئة حديث»
(6).
فهذا
مدخل على سفيان احتال في أن يلجه هذا الرجل ، ودار على الحديث دورة مغايرة لما
يفهم عادة من الحديث ، وهو أن ماء زمزم ، يشفي، بإذن الله ، مما قد يكون هناك من
داء، إلا أن كلمات الحديث لا تخرج عما رمى إليه الرجل، ولهذا ، إن صح الخبر،
فسفيان استجاب .
والحيلة
على عالم مثل سفيان ، في الحصول على برّ أمر مقبول ، وتنسى الوسيلة ، وما قد تحتوي
عليه ؛ ولكن حيلة أخرى أُجريت على عالم جليل ، لم تأت ينفع ، غير مقبولة ؛ والغريب
فيها أن الخدعة جاءت من امرأة مجهولة ، وسلطت على الإِمام أبي حنيفة ، والذي
يرويها هو أبو حنيفة نفسه:
«قال
أبو حنيفة :
خدعتني
امرأة أشارت إلى كيس مطروح في الطريق ، فتوهمت أنه لها ، فحملته إليها ، فقالت:
احتفظ به حتى يجيء صاحبه».(7)
والقصة
التالية فيها شبه حيلة ؛ لأن يونس بن عبيد ، كما يبدو، كان حريصًا على أن يستقبله
ابن سيرين ؛ ولكنه يعرف أن ابن سيرين ليس حريصًا على ذلك ، فاستعد بما يجعل ابن
سيرين يستقبله ؛ ولكنه أراد أن يتأكد من سوء ظنه به ، وقد ثبت ما ظنه فيه ، وهذه
هي القصة :
«قال
يونس بن عبيد :
أتيت
ابن سيرين يومًا ، ومعي خبيص ، فقلت:
قولوا
له : يونس بالباب .
فقال
، وأنا اسمع : قولوا له قد نام .
فقلت
: إن معي خبيصًا .
قال
: كما أنت ، حتى أخرج إليك»
(8).
* * *
الهوامش :
(1)
عيون الأخبار : 4/112 .
(2)
ربيع الأبرار : 1/802 .
(3)
ربيع الأبرار: 1/528، عيون الأخبار: 1/458 .
(4)
من اسمه عمرو: 62 .
(5)
أخبار الظراف : 93 .
(6)
أخبار الظراف : 142 .
(7)
أخبار الظراف : 174 .
(8)
بهجة المجالس : 1/282 ، عيون الأخبار: 3/48 .
* * *
* *
مجلة الداعي
الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1427هـ = يناير 2007م ،
العـدد : 12 ، السنـة : 30.